استفاقت فجأة، لتجد نفسها في غرفة غريبة تفوح منها رائحة المنظفات والأدوية التي جعلتها تشعر بالغثيان. لا تستطيع تحريك جسدها كما ينبغي، وكأن هناك قيودًا تقيد إحدى يديها بالسرير. السرير كان قاسيًا، باردًا، غير مريح على الإطلاق. العالم حولها كان ضبابيًا، لا تستطيع أن تستوعب أي شيء. كأنها استفاقت لتوها من عالم آخر، والذاكرة بعيدة عنها كأنها محوت عمداً.
فجأة، فُتح باب الغرفة، ليظهر رجل يرتدي ملابس طبيب. نظر إليها وقال بصوت هادئ، مليء بالارتياح: “الحمد لله على السلامة، أخيرًا استيقظتِ.”
حاولت أن ترد عليه، أن تسأله أين هي وماذا حدث لها، لكن لسانها جف من العطش. حاولت أن تتكلم، ولكن لم تستطع. لاحظ الطبيب حالتها وأعطاها كأس ماء، قائلاً: “اشربي، هتكوني أحسن.”
شربت الماء ببطء، ثم رفع الطبيب حاجبيه وقال بهدوء: “أحسن؟”
أومأت برأسها بصمت، محاولة أن تسيطر على نفسها. ثم سألها الطبيب، وكان في نبرته شيء من الفضول: “إيه أخر حاجة فكراها؟”
لحظات قليلة، ثم غاصت في أعماق ذاكرتها، كما لو أن الزمن قد عادت عقارب ساعته للوراء. وجدت نفسها في ذكرى بعيدة، شعرت أنها مرت عليها سنوات عديدة، حتى أن الأيام واللحظات بدأت تتداخل في ذهنها. تذكرت نفسها خجولة، وجسدها يهتز قليلاً أثناء خطبتها. سمعت كلمات العريس وهو يقول لوالدها: “أنا مش أحسن واحد في الدنيا، بس ربنا يشهد هحاول أكون أحسن واحد معاكي.”
رغم تلك الكلمات البسيطة، شعر قلبها بالسعادة. كانت تلك اللحظات هي بداية كل شيء، بداية حياتها الجديدة. الدموع بدأت تنهمر من عينيها، بينما تذكرت تلك الفرحة الطفولية التي كانت تملأ قلبها في ذلك اليوم. لكن فجأة، تذكر عقلها شيئًا آخر، شيئًا لا يمكن تجاهله.
الوعود، نعم، الوعود التي لا يجب أن تكسر. الوعود التي لا يجب أن تُعطى إلا إذا كنت على يقين أنك ستفي بها. كيف يمكن للكلمات أن تكون جميلة هكذا، لكن الأفعال كانت شيئًا آخر؟ لماذا كانت تصدق الوعود والكلمتات؟ لماذا كانت تتجاهل كل الدلائل وتعيش في وهم الكلمات؟
أيقظها الطبيب من شرودها: “بتفكري في إيه دلوقتي؟”
نظر إليها بحيرة، ثم قالت، وهي تكاد تهمس: “أتذكر كل شيء، كل شيء أدى بي إلى هنا… كيف صدقت كلماته؟ كيف كنت بهذا الغباء رغم أنني كنت أرى أفعاله؟ هو سبب دمار عالمي، هو وأخته… استحقوا الموت، بل كان الموت راحة لهم، لكنني استمتعت بتعذيبهم.”
تفاجأ الطبيب من رد فعلها، شعر بحزن عميق يملأ الكلمات التي خرجت من فمها. لكنه حافظ على هدوئه وقال: “لقد أوقفنا الأدوية منذ أسبوع حتى تستعيدي وعيك. هل يمكنك أن تحكي لي ما حدث من البداية؟”
كان قلبها يغلي، لكنها أخذت نفسًا عميقًا، ثم بدأت تحكي، وكأن الكلمات تنفجر من داخلها:
“كنت صغيرة في السن، مليئة بالأحلام. كنت أعتقد أن حياتي ستظل مليئة بالضوء والسعادة. عندما تقدم لي زوجي، وسمعت كلماته، ووعده لأبي، وافقت، وكأنني وافقت على نهاية حياتي.”
هزت رأسها، وواصلت حديثها بحزن: “بعد زواجنا، انتقلنا للعيش في شقة منفصلة في نفس البناية مع عائلة زوجي. بعد فترة، تركوا المنزل، إلا أن أخته بقيت. كانت لا تترك فرصة إلا وتحاول تخريب علاقتي بزوجي، لأنها كانت تستمتع بتعذيبه. كنت أحاول تجنبها، خاصة بعدما حملت بمعروف، ابني الذي غير حياتي كلها. كان عالمي كله. تخيل أن ترى قطعة منك أمامك تكبر، تفرح وتبكي معك. كان هو فرحي الأول. ثم جاء التوأمان، فضل وسالم، فازدادت سعادتي، لكن الحياة لم تكن عادلة أبدًا.”
ثم تابعت: “في يوم ما، فجأة، جاءت أخت زوجي لزيارتي، وهو شيء نادر لم يحدث من قبل. رحبت بها، وتركتها مع الأولاد بينما ذهبت لإعداد الشاي لها. مر وقت طويل، ثم شعرت بشيء غريب. كان البيت هادئًا للغاية، وكأن شيئًا غير طبيعي يحدث. عدت إلى الغرفة لأكتشف أن أخت زوجي كانت تعطي معروف عصيرًا، وأشارت لي قائلة: ‘اشتريت لهم شيئًا حلوًا ليحلو يومهم.’ في تلك اللحظة، شعرت أن علاقتي بها قد تتغير للأفضل، لكنني لم أكن أتصور أبدًا أنها تحمل هذا الشر في قلبها.”
“مرت ساعات قليلة، ثم بدأ معروف يصرخ من الألم. حاولت أن أفعل أي شيء، لكنني لم أتمكن من مساعدته. جاء زوجي، وحملناه بسرعة إلى أقرب مستشفى. أخبرونا أنها حالة تسمم. معروف… ابني… تسمم؟ كيف؟ ولماذا؟ كل ما تذكرته هو المشروب الذي قدمته له أخت زوجي.”
توقفت قليلاً، وكانت دموعها تتساقط بغزارة. ثم قالت بصوت منخفض، يكاد يختنق من الألم: “بقى معروف ثلاثة أيام في عذاب شديد، ثم مات. وعندما عدت إلى المنزل، وجدتها هي من تتولى تجهيز العزاء، وتستقبل الزوار. عندما حاولت التحدث مع زوجي عن ما حدث، اكتشفت خوفه الشديد منها، خوفه على سمعة العائلة. وقال لي: ‘اللي حصل حصل. مش هحبس أختي.'”
ثم صمتت للحظة قبل أن تتابع:
“منذ تلك اللحظة، تغير كل شيء، وتغير هو أيضًا. أصبح أكثر عنفًا، خصوصًا مع ‘فضل’ و’سالم’. حاولت الدفاع عنهم في العديد من المرات، لكن كل مرة كان يزداد عنفه، كأنه كان ينتقم من نفسه على أشياء لا علاقة لهم بها.”
هنا، توقفت عن الحديث. كأن الكلمات توقفت في حلقها، لكنها كانت قد قالت كل شيء. وكل شيء كان واضحًا الآن.
ولكنها أكملت بعدها وهي تتذكر ما حدث: كنت دائمًا في حالة حزن، كأني أعيش حياة شخص آخر. في يوم من الأيام، كنت أمر على محل للشنط لأشتري لفضل الشنطة التي أرادها، وأحاول أن أواسيه بعد أن ضربه والده مرة أخرى. دخلت المحل، وكان صاحب المحل، “فتحي”، يُرشدني إلى آخر شحنة وصلت إليه. دخلت المحل وأنا أتخيل فرحة فضل بالهدية، لكن فوجئت بـ”فتحي” هذا الخسيس يقوم بلمسي بطريقة غير لائقة. لم أتمكن من الصراخ أو البكاء أو الاستغاثة، تجمدت في مكاني. وبعد أن ابتعد عني، هربت من المحل وهو يناديني أن أعود مرة أخرى لاحقًا للمشاهدة باقي مجموعة الشنط التي لديه.
عدت إلى منزلي وأنا أرتجف، أحاول أن أخفي توتري وإرتباكي عن زوجي وأولادي. لكن زوجي كالعادة، لم يكن يعنيه إلا نفسه. خلَدت للنوم، ومنذ تلك اللحظة بدأت أحلم بقتله، بقتل “فتحي” وتعذيبه، ورميه في النيل ملفوفًا بالحجارة حتى لا يُعثر على جثمانه النجس مرة أخرى.
لكن المفاجأة كانت بعد أيام، حيث اكتشفت أن محل “فتحي” تم بيعه وأنه اختفى منذ عدة أيام. شعرت أن حلمي لم يكن مجرد حلم، لكنني كذبت على نفسي لأن الأحلام لا تتحقق بهذه السهولة.
كبر فضل وسالم وأصبحا يذهبان إلى المدرسة. كنت أودعهما يوميًا من النافذة وأراهما يمران بالقرب من عبير، بنت جيرانهم في نفس الشارع. كنت ألاحظ كيف تتعامل مع فضل وسالم، وكيف تفتعل المشاكل بين أولادي وتبتسم عندما يتشاجران عليها أو بسببها. شعرت بأنني إذا لم أتخلص منها، ستؤذي أولادي. وفي يوم من الأيام، بينما كانوا يلعبون على سلالم العقار، رأيت عبير تنظر إليهم من أعلى السلم، ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أقترب منها وأدفعها.
ماتت عبير، والكل أعلن أنه قضاء الله وقدره. وكنت أنا من أوائل المعزيين بما إني أم أصدقاءها، فهذا واجب وأصول.
تسألني عن صالح؟ آه، صالح صديق فضل. لقد كسر قلبي هذا الصغير. هل تعلم أن بعض الناس يجب أن يموتوا رحمة لهم؟ أعتقد أن هذا هو سبب قتلي لصالح. لم أستطع أن أراه مكسورًا بلا أم، لا يجب أن يعيش أي شخص بلا أم، خصوصًا إذا كانت أمًا حنونًا مثل أم صالح. كان يجب أن يرحمه أحد.
لكن قتل صالح جعلني أفكر في فضل وسالم، ماذا سيحدث لهما إذا حدث لي شيء؟ هل ستقتلهم أخت زوجي؟ هل سيقتلهم أبوهم يومًا ما بسبب الضرب؟ لا، لن أسمح لأحد أن يؤذيهم كما حدث مع معروف.
كنت قد بدأت في هواية جديدة وهي تربية النباتات السامة، وقد اختبرتها أكثر من مرة. القطط التي تأتي للعقار كانت ممتازة لتجاربي. وتمكنت من زراعة نبات بسبب هوايتي الجديدة والذي ساعدني في خطتي. يجب أن أحمي أولادي من هذا العالم مهما كان الثمن.
كنت قد عودتهم على أن أعطيهم كوب حليب قبل النوم وأنتظر معهم حتى يغفوا، وتكون أول من يوقظهم. ولكن في هذا اليوم، استغرقت في النوم لأني كنت اعلم أنهم لن يستيقظوا.
اندهش الطبيب من قسوتها، وقال في نفسه:
“هل قتلتهم فعلاً؟ كيف لم يكتشف أحد ما حدث طوال هذه السنين؟”
ولكنها تفاجأت بنفسها وهي ترد عليه قائلة:
“كل اللي فات ما كانش ليا ذنب فيه. كنت بحمي نفسي وأولادي واتظلمت كتير. بس كان لازم مفضلش اتظلم، كان لازم انتقم من اللي كانوا السبب في ضياع حياتي.”
وأضافت:
“وعشان كده، قربت من أخت زوجي، وهي ما منعتش، عشان هي عارفة أني عارفة حقيقتها. يمكن حست بالذنب، بس ده ما كانش فارق. واتعودت أنزل أقعد معاها كل يوم ثلاثاء لحد الفجر. وفي يوم بعد العشاء، حضرت كوبًا من الشاي بالنعناع لزوجي، ونزلت إلى أخت زوجي. لكن في الحقيقة، فضلت على السلم أسمعه وهو بيتعذب ويحاول يستنجد بحد يساعده. افتكرت في كل مرة ضربني أنا أو أولادي، وكسر قلبي وقهرني، والأهم افتكرت الوعد اللي كسره”.
وبعد موته، تركت أكثر واحدة عذبتني وكانت سبب في تدمير حياتي للنهاية، لأستمتع بكل ما سأفعله فيها. لكن للأسف، لم تعيش طويلاً كما خططت، استسلمت للموت بسهولة الخسيسة.
وأكملت: “وأنا مش ندمانة على شيء، ندمانة بس إني صدقت وعد شخص لمجرد إني حلمت بحياة سعيدة وعلقتها على كلام من غير أفعال”.
هنا، لاحظ الطبيب أنها كانت تحاول أن تأخذ منه القلم الذي يكتب به ملاحظاته حتى تنهي عذابها، ولكنها فشلت في محاولاتها، خصوصًا مع تقييد إحدى يديها بالفراش.
خرج الطبيب من غرفتها وذهب إلى مكتبه محاولًا جمع شتات نفسه بعد كل ما سمعه، ليتمكن من كتابة التقرير الطبي للنيابة وتقديمه للمحكمة خصوصًا بعد أن وجدوها تعييش مع جثة متعفنة في منزلها أثناء بحث أقاربها عنها وكسر باب شقتها بعد ظهور رائحة كريهة باعثة منها، ووجدوا أنها فاقدة الوعي، وبعد الفحص وجدوا أن الجثة ترجع لأخت زوجها المتوفي والتي كانت تعتني بها.
التقرير الطبي:”المريضة تعاني من اضطراب تعدد الشخصيات، وهو اضطراب نفسي يجعل الفرد يختبر أكثر من شخصية أو تصور ذاتي مختلف. غالبًا ما تكون لهذه الشخصيات خصائص مميزة، وقد يكون لها أسماء وأعمار وأجناس ولغة وحتى خصائص جسدية مختلفة. تحدث تغيرات مفاجئة وغير متوقعة في الشخصية، حيث يمكن ملاحظة تحولات جذرية بين الشخصيات المختلفة. عندما وجدها الشرطة، كانت فاقدة الوعي، وظلت على هذه الحالة لأيام، ولكن عندما أفاقت، بدأت تتحدث بصوت رجولي وتقول إن اسمها “فضل”، وتبحث عن “سالم”، و”عبير”، و”معروف”. وفي أوقات أخرى، تقول إنها “عبير” أو “سالم” أو “معروف” وتبحث عن الأخرين، وفي كل مرة يتغير صوتها وتعابير وجهها تمامًا، كأنها شخص آخر.”
“المريضة غير مؤهلة للمحاكمة، وينصح بإكمال حبسها في المصحة النفسية.”
حقيقي فخورة بيك يا سارة وقد ايه انتي شاطرة جبتيها صح أوي كتابتك رائعه غير ممله أحييك من قلبي أنا في إنتظار عمل كامل لكِ بهذا العقل المتفرد 🌷🤍
👏👏
قصة جميلة تتميز بحبكة درامية رائعة
احسن من النهايات الأصلية والله